البحث الثاني : قال بعض المحققين : إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه : أحدها : أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصاً لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام :"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وعلى ما قال :"حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وثانيها : أن المؤمن، وإن صفا عيشه في الدنيا، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى :﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على أمر الآخرة، فهذا كلام محقق، وقال بعض العارفين : إن الولاية عبارة عن القرب، فولى الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئاً، ولا يحزن بسبب شيء، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن ؟
وهذه درجة عالية، ومن لم يذقها لم يعرفها، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية، كما يحصل لغيره، وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له، فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه، والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ ما كان فازعاً من تلك السباع، فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة، فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟
فقال الشيخ : إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى.
المسألة الثانية : قال أكثر المحققين : إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محقل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى :﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وبقوله تعالى :﴿لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ (الأنبياء : ١٠٣) وأيضاً فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال : بل يحصل فيه أنواع من الخوف، وذكروا فيه أخباراً تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٧٨
وأما قوله :﴿الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ففيه ثلاثة أوجه : الأول : النصب بكونه صفة للأولياء. والثاني : النصب على المدح. والثالث : الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى.
وأما قوله تعالى :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ ﴾ ففيه أقوال : الأول : المراد منه الرؤيا الصالحة، عن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه قال :"البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وعنه عليه الصلاة والسلام :"ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" وعنه عليه الصلاة والسلام :"الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره" وعنه صلى الله عليه وسلّم :"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" وعن ابن مسعود، الرؤيا ثلاثة : الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل، وحضور الشيطان، والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة. وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة، فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءاً من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي.
واعلم أنا إذا حملنا قوله :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضاً يدل عليه، وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب / والروح بذكر الله، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم، فإنه إذا نام يبقى كذلك، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه، فلهذا السبب قال :﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾ على سبيل الحصر والتخصيص.
القول الثاني : في تفسير البشرى، أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر. قال ؟
قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. فقال :"تلك عاجل بشرى المؤمن".