المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٥
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة/ فإنهم يقولون : الاستطاعة قبل الفعل محال، فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولاً به في محل النزاع، لأنه حال البقاء مقدوره، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه، أما حال الحدوث، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده.
المسألة الخامسة : تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل، لأن قوله :﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة : ٢٨٤) يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ثم خص بدليل العقل، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً، وذلك يوجب الطعن في القرآن، قلنا : لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع. فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، / وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً والله أعلم.
القول في إقامة الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٥
٣١٩
اعلم أن في هذه الآيات مسائل : ـ
المسألة الأولى : أن الله تعالى لما قدم أحكام الفرق الثلاثة، أعني المؤمنين والكفار والمنافقين. أقبل عليهم بالخطاب، وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وفيه فوائد : أحدها : أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث : إن فلاناً من قصته كيت وكيت، ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت : يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزبد تحريك لذلك الثالث. وثانيها : كأنه سبحانه وتعالى يقول. جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة، شرف المخاطبة والمكالمة. وثالثها : أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلاً بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي، بدليل أنه في هذه الآية، انتقل من الغيبة إلى الحضور. ورابعها : أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف، ففيه كلفة ومشقة فلا بدّ من راحة تقابل هذه الكلفة، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال : أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب.
المسألة الثانية : حكي عن علقمة والحسن أنه قال : كل شيء في القرآن :﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنه مكي، وما كان ﴿خَبِيرًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ فبالمدينة، قال القاضي : هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة / فهذا ضعيف، لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم، ومرة باسم جنسهم، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة، كما يؤمر المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها، فالخطاب في الجميع ممكن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٩