المسألة الثالثة : في قوله :﴿فُصِّلَتْ﴾ وجوه : أحدها : أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية، وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص. والثاني : أنها جعلت فصولاً سورة سورة، وآية آية. الثالث :﴿فُصِّلَتْ﴾ بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة، ونظيره قوله تعالى :﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـاتٍ مُفَصَّلَـاتٍ﴾ (الأعراف : ١٣٣) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة. الرابع : فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة. الخامس : جعلت فصولاً حلالاً وحراماً، وأمثالاً وترغيباً، وترهيباً ومواعظ، وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل، قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها، / ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل.
المسألة الرابعة : معنى ﴿ثُمَّ﴾ في قوله :﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ ليس للتراخي في الوقت، لكن في الحال كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وكما تقول : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿الارا كِتَـابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـاتُه ﴾ أي أحكمتها أنا ثم فصلتها، وعن عكرمة والضحاك ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ أي فرقت بين الحق والباطل.
المسألة السادسة : احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه : الأول : قال المحكم : هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال، ولا يجوز أن يقال : كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً، لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً، ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث. الثاني : أن قوله :﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق، ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل، وتكوين مكون، وذلك أيضاً يدل على المطلوب. الثالث : قوله :﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ والمراد من عنده، والقديم لا يجوز أن يقال : إنه حصل من عند قديم آخر، لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٤
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة، وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.
المسألة السابعة : قال صاحب "الكشاف" قوله :﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ يحتمل وجوهاً : الأول : أنا ذكرنا أن قوله :﴿كِتَـابٌ﴾ خبر و﴿أُحْكِمَتْ﴾ صفة لهذا الخبر، وقوله :﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ صفة ثانية والتقدير : الر كتاب من لدن حكيم خبير. والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير : الر من لدن حكيم خبير. والثالث : أن يكون ذلك صفة لقوله :﴿أُحْكِمَتْ﴾ أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير، وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣١٤
٣١٧
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله :﴿خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ﴾ وجوهاً : الأول : أن يكون مفعولاً له والتقدير : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد، فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب، فقد خاب وخسر. الثاني : أن تكون ﴿ءَانٍ﴾ مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى، لأن قوله :﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا ﴾ معطوف على قوله :﴿أَلا تَعْبُدُوا ﴾ فيجب أن يكون معناه : أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي، فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه. والثالث : أن يكون التقدير : الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم، إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه : الأول : أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله، وإذا قلنا : الاستثناء من النفي إثبات، كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى، والأمر بعبادة الله تعالى، وذلك هو الحق، لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن، فثبت أن عبادة غير الله منكرة، والإعراض عن عبادة الله منكر.


الصفحة التالية
Icon