أما القسم الأول : فهو المراد من قوله :﴿وَ لئن أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَـاهَا مِنْهُ إِنَّه لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾ وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤس كفور. وتقريره أن يقال : أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤساً، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفوراً لأنه لما اعتقد أن / حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة. فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوساً وعند حصولها يكون كفوراً.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٢٣
وأما القسم الثاني : وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب، ومن المحنة إلى النعمة، فههنا الكافر يكون فرحاً فخوراً. أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها، وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين. ثم لما قرر ذلك قال :﴿إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ والمراد منه ضد ما تقدم فقوله :﴿إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين، وقوله :﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين. ثم بين حالهم فقال :﴿أُوالَـا ئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ فجمع لهم بين هذين المطلوبين. أحدهما : زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله :﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ والثاني : الفوز بالثواب وهو المراد من قوله :﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٢٣
٣٢٤
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار، والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه، ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد اجعل لنا / جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك. فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية. واختلفوا في المراد بقوله :﴿تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلّم :"ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك، وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول :﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ﴾ (طه : ١٥) وقال بعضهم : المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل.
المسألة الثانية : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه، لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله :﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكُا بَعْضَ مَا يُوحَى ا إِلَيْكَ﴾ شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه : الأول : لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات. البليغة الثاني : أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه، فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى، والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة، لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم، ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف، فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه.


الصفحة التالية
Icon