ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله :﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل ﴾ وهذا أيضاً جهل، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـاذِبِينَ﴾ وفيه وجهان : الأول : أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه/ والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة. والثاني : أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه.
المسألة الثانية : قال الواحدي : الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل. والأراذل جمع الأرذل، كقولهم أكابر مجرميها، وقوله عليه الصلاة والسلام :"أحاسنكم أخلاقاً" فعلى هذا الأراذل جمع الجمع، وقال بعضهم : الأصل فيه أن يقال : هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا : هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله :﴿بَادِىَ الرَّأْىِ﴾ البادي هو الظاهر من قولك : بدا الشيء إذا ظهر، ومنه يقال : بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً : الأول : اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، والثاني : يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في / ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي. الثالث : أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا : كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم، والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ ﴿إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ﴾.
المسألة الثالثة : قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و﴿أَرَاذِلُنَا بَادِىَ﴾ نصب على المصدر كقولك : ضربت أول الضرب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٨
٣٣٩
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جواباً عن تلك الشبهات.
فالشبهة الأولى : قولهم :﴿مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه، فقال :﴿أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى﴾ من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه، ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده، والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم، فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم ؟
والمراد أني لا أقدر على ذلك ألبتة، وعن قتادة : والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه، وحاصل الكلام أنهم لما قالوا :﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل ﴾ (هود : ٢٧) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود، وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلاً عظيماً.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾ بضم العين وتشديد / الميم على ما لم يسم فاعله، بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم، أي التبست واشتبهت.
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولاً محضاً أشبه المعمي، لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازاً عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ (النمل : ١٣) وكذلك توصف بالعمى، قال تعالى :﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ﴾ (القصص : ٦٦) وقال في هذه الآية :﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٩
المسألة الثالثة :﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ فيه ثلاث مضمرات : ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب، وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى، وروي ذلك عن أبي عمرو قال : وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة، قال الزجاج : جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء، وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرىء القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٩
٣٤١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه :


الصفحة التالية
Icon