المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا : إن الإنسان إذا قال : أنا لا أدعي كذا وكذا، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء، ثم قالوا : وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة، وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء : أولها : الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنياً فقوله :﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها : العلم التام وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ وثالثها : القدرة التامة الكاملة، وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله :﴿وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ﴾ والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية، فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك / فقد ظهر أن قوله :﴿وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ﴾ يدل على أنهم أكمل من البشر، وأيضاً يمكن جعل هذا الكلام جواباً عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال :﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآاـاِنُ اللَّهِ﴾ حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال :﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أُجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال :﴿وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ﴾ حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية.
المسألة الثالثة : احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي، ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلّم طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله :﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه ﴾ (الأنعام : ٥٢) وذلك يدل على إقدام محمد صلى الله عليه وسلّم على الذنب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤١
والجواب : يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلّم، على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح.
المسألة الرابعة : احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام ﴿مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ﴾ معناه إن كان هذا الطرد محرماً فمن ذا الذي ينصرني من الله، أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضاً جائزة وحينئذ يبطل قوله :﴿مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ﴾ واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ إلى قوله :﴿لا يُنصَرُونَ﴾ (البقرة : ٤٨) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤١
٣٤٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة.
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين : الأول : أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم، وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء، وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار. والثاني : أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، فقالوا :﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال :﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه، أي لا يمنعه منه، والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه، فقوله :﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده، فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم، وقد قيل معناه : وما أنتم بمانعين، وقيل : وما أنتم بمصونين، وقيل : وما أنتم بسابقين إلى الخلاص، وهذه الأقوال متقاربة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٣


الصفحة التالية
Icon