فإن قيل : قوله تعالى :﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ أمر إيجاب أو أمر إباحة.
قلنا : الأظهر أنه أمر إيجاب، لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها.
أما قوله :﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه : أحدها : أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة. وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى :﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ﴾ وثانيها : أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال : قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل. وثالثها : أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه : الأول : أن معنى ﴿بِأَعْيُنِنَا﴾ أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه. الثاني : أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية / عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما : أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل. والثاني : أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه، وقوله :﴿وَوَحْيِنَا﴾ إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٥
وأما قوله :﴿وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا ا إِنَّهُم﴾ ففيه وجوه : الأول : يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم، فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال :﴿نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نوح : ٢٦) الثاني :﴿وَلا تُخَـاطِبْنِى﴾ في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً، الثالث : المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٤٦
أما قوله تعالى :﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله :﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ قولان : الأول : أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. الثاني : التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله :﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾.
المسألة الثانية : ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة : فأحدها : أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام، وثانيها : قال الحسن / كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان، لأن هذا القدر مذكور في القرآن، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.
أما قوله تعالى :﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلا مِّن قَوْمِه سَخِرُوا مِنْه ﴾ ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما : أنهم كانوا يقولون : يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً. وثانيها : أنهم كانوا يقولون له : لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وثالثها : أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون. ورابعها : أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون : ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون. وخامسها : أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٤٦


الصفحة التالية
Icon