فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك ؟
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين ؟
قوله لأنه يصير ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال، قلنا لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها، ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة، فصح تفسير قوله :"اعبدوا" بالزيادة في العبادة. البحث الخامس : قال منكرو التكليف : لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف لوجوه : أحدها : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر، فإن كان الأول فهو محال، لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح لأن الاستواء يناقض الترجيح فالجمع بينهما محال والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق، وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع ؛ لأن المرجوح حال ما كان مساوياً للراجح كان ممتنع الوقوع، وإلا فقد / وقع الممكن لا عن مرجح، وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفاً بإيجاد ما يجب وقوعه، وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفاً بما يمتنع وقوعه، وكلاهما تكليف ما لا يطاق. وثانيها : أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم فلا فائدة في ورود الأمر به، وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم، فكان الأمر بإيقاعه أمراً بإيقاع الممتنع وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله تعالى وهو محال، ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي، وحينئذٍ لا يكون في الطاعة فائدة. وثالثها : أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أن الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده، وأما إلى العابد فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم، وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق فيكون توسطها عبثاً، والعبث غير جائز على الحكيم. ورابعها : أن العبد غير موجد لأفعاله لأنه غير عالم بتفاصيلها ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل. وخامسها : أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن فلو قدرنا إنساناً مشتغل القلب دائماً بالله تعالى وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقاً له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة، فإن الفقهاء والقياسيين قالوا إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر. والجواب : عن الشبه الثلاثة الأول من وجهين : الأول : أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض. الثاني : أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره لأنه تعالى خالق مالك، والمالك لا اعتراض عليه في فعله. البحث السادس : قالوا : الأمر بالعبادة وإن كان عاماً لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي، وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣١٩
﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ (البقرة : ٢٣٣).
ومنهم من قال إنه مخصوص في حق العبيد، لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم، واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة، والأمر الدال على وجوب طاعة المولى / أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة والخاص يقدم على العام والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه.
المسألة السابعة : قال القاضي : الآية تدل على أن سبب وجود العبادة ما بينه من خلقه لنا والإنعام علينا. واعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أن العبد لا يستحق بفعله الثواب لأنه لما كان خلقه إيانا وإنعامه علينا سبباً لوجوب العبادة فحينئذٍ يكون اشتغالنا بالعبادة أداء للواجب، والإنسان لا يستحق بأداء الواجب شيئاً فوجب أن لا يستحق العبد على العبادة ثواباً على الله تعالى أما قوله :﴿رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon