المسألة الأولى : قرأ حمزة والكساني ﴿قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌ ﴾ بكسر السين وسكون اللام بغير ألف، وفي والذاريات مثله. قال الفراء : لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤا سلموا عليه. قال أبو علي الفارسي : ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو، وهذا الوجه عندي بعيد، لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام، إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال :﴿قَالُوا سَلَـامًا قَالَ سَلَـامٌا فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ (هود : ٦٩) والفاء للتعقيب، فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٥
المسألة الثانية : قالوا سلاماً تقديره : سلمنا عليك سلاماً قال سلام تقديره : أمري سلام، أي لست مريداً غير السلامة والصلح. قال الواحدي : ويحتمل أن يكون المراد : سلام عليكم، فجاء به مرفوعاً حكاية لقوله كما قال : وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله :﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ (يوسف : ١٨) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوماً بعد الحذف، وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف، ونظيره قوله تعالى :﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَـامٌ ﴾ (الزخرف : ٨٩) على حذف الخبر.
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض، رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى :﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى ا أَهْلِهَا ﴾.
المسألة الثالثة : أكثر ما يستعمل ﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ بغير ألف ولام، وذلك لأنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم : خير بين يديك.
فإن قيل : كيف جاز جعل النكرة مبتدأ ؟
قلنا : النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ، فإذا قلت سلام عليكم : فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال، فكأنه قيل : سلام كامل تام عليكم، ونظيره قولنا : سلام عليك، وقوله تعالى :﴿قَالَ سَلَـامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى ﴾ (مريم : ٤٧) وقوله :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) ﴿سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَـالَمِينَ﴾ (الصافات : ٧٩) ﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ (الرعد : ٢٣، ٢٤) فأما قوله تعالى :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ (طه : ٤٧) فهذا أيضاً جائز، والمراد منه الماهية والحقيقة. وأقول : قوله :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ أكمل من قوله : السلام عليكم، لأن التنكير في قوله :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ﴾ يفيد الكمال والمبالغة والتمام. وأما لفظ السلام : فإنه لا يفيد إلا الماهية. قال الأخفش : من العرب من يقول : سلام عليكم فيعرى قوله : سلام عن الألف واللام والتنوين، والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك، ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم، فعجل وجاء بعجل حنيذ، فقوله :﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ معناه : فما لبت في المجيء به بل عجل فيه، أو التقدير : فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة. أما الحنيذ : فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل كما قيل : طبيخ ومطبوخ، وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسمه. يقال : حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٧٥
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ أي إلى العجل، وقال الفراء : إلى الطعام، وهو ذلك العجل ﴿نَكِرَهُمْ﴾ أي أنكرهم. يقال : نكره وأنكره واستنكره.


الصفحة التالية
Icon