المسألة الثانية : روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾ بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى :﴿وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ (هود : ٧٢) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء ﴿هَـا ؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ﴾ كان هذا نظير قوله :﴿وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا ﴾ إلا أن كلمة "هن" قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالاً وطولوا فيه، ثم قال :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل، والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه.
المسألة الثانية : في لفظ ﴿لا﴾ وجهان : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تفضحوني في أضيافي، يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة. والثاني : لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم، لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال : خزي الرجل إذا استحيا.
المسألة الثالثة : الضيف ههنا قائم مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال. في قوله تعالى :﴿الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا ﴾ (النور : ٣١) ويجوز أن يكون الضيف مصدراً فيستغنى عن جمعه كما يقال : رجال صوم. ثم قال :﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ وفيه قولان : الأول :﴿رَّشِيدٌ﴾ بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. والثاني : رشيد بمعنى مرشد، والمعنى : أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح. وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح، والأول أولى.
ثم قال تعالى :﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ وفيه وجوه : الأول : مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة، والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق، فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة. الثاني : أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول : معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن ألبتة. ولا يميل أيضاً طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث. الثالث :﴿مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق. ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال :﴿لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٠
المسألة الأولى : جواب "لو" محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير : لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى :﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ (الرعد : ٣١) وقوله :﴿وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ (الأنعام : ٢٧) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع.
المسألة الثانية :﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً﴾ أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى :﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال : ٦٠) والمراد السلاح، وقال آخرون القدرة على دفعهم، وقوله :﴿أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيهاً له بالركن الشديد من الجبل/
فإن قيل : ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم ؟
قلنا : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿أَوْ ءَاوِى ﴾ بالنصب بإضمار أن، كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آوياً.
واعلم أن قوله :﴿لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة، وفيه وجوه : الأول : المراد بقوله :﴿لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً﴾ كونه بنفسه قادراً على الدفع وكونه متمكناً إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم، والمراد بقوله :/ ﴿أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته. الثالث : أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع، ثم استدرك على نفسه وقال : بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى، وعلى هذا التقدير فقوله :﴿أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به، وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم، ولذلك قال النبي عليه السلام :"رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد".
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٠
٣٨٢


الصفحة التالية
Icon