والوجه الثاني : أن قوله :﴿وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ نهي عن التنقيص وقوله :﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ أمر بإيفاء العدل، والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به، وليس لقائل أن يقول : النهي عن ضد الشيء أمر به، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنا نقول : الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقول : صل قرابتك ولا تقطعهم، فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد. الثاني : أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصل المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق، ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات، وإنما منع من التطفيف، وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية، فلأجل إبطال هذا الخيال، منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان. ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة، بل في كل واحد منها فائدة زائدة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٦
والوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ وفي الثانية قال :﴿أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾ والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام، لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاء : إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس. فالحاصل : أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان، وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب / إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة، وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله :﴿بِالْقِسْطِ ﴾ يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل. ثم قال :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ والبخس هو النقص في كل الأشياء، وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص في المكيال والميزان، وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء. ثم قال :﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
فإن قيل : العثو الفساد التام فقوله :﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ جار مجرى أن يقال : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٨٦
قلنا : فيه وجوه : الأول : أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله :﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني : أن يكون المراد من قوله :﴿وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ مصالح دنياكم وآخرتكم. والثالث : ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان. ثم قال :﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي. ثم نقول المعنى : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن : بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل، لأن ثواب الطاعة يبقى أبداً، وقال قتادة : حظكم من ربكم خير لكم، وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا، وإما ثواب الله، وأما كونه تعالى راضياً عنه والكل خير من قدر التطفيف، أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنساناً بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق، وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه، وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر، لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق، وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر، فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير. ثم قال :﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ وإنما شرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل.


الصفحة التالية
Icon