واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد / الحصر، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه، وأما قوله :﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ فهو إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر لأن قوله :﴿وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال :"ذاك خطيب الأنبياء" لحسن مراجعته في كلامه بين قومه.
وأما الوجه الرابع : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله :﴿أُنِيبُ * وَيَـاقَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم﴾ قال صاحب "الكشاف" : جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنباً وكسبه وجرمه ذنباً وكسبه إياه، ومنه قوله تعالى :﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم﴾ أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب، وقرأ ابن كثير ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بضم الياء من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً له. وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه، والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظاً كما أن كسبه مالاً أفصح من أكسبه.
إذا عرفت هذا فنقول : المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق/ ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف.
وأما قوله :﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ ففيه وجهان : الأول : أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين، والثاني : أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام، وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٠
فإن قيل : لم قال :﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ وكان الواجب أن يقال ببعيدين ؟
أجاب عنه صاحب "الكشاف" من وجهين : الأول : أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد. الثاني : أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.
وأما الوجه الخامس : من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله : واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود. قال أبو بكر الأنباري : الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده، من قولهم وددت الرجل أوده، وقال الأزهري في "كتاب شرح أسماء الله تعالى" ويجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولاً أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه. ثم بين ثانياً أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليماً رشيداً، ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما شتغل بها، ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله :﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه ﴾ ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك، وهذا التقرير في غاية الكمال.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٠
٣٩١
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان، أجابوه بكلمات فاسدة. فالأول : قولهم :﴿قَالُوا يَـاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon