واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين : أحدهما : أنه يوم مجموع له الناس، والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون. والثاني : أنه يوم مشهود قال ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر. وقال آخرون يشهده أهل السماء / وأهل الأرض، والمراد من الشهود الحضور، والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه، فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٧
ثم قال تعالى :﴿وَمَا نُؤَخِّرُه ا إِلا لاجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهياً فإنه لا بد وأن يفنى، فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه، وأن تخرب الدنيا فيه، وكل ما هو آت قريب.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٩٧
٤٠٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة ﴿يَأْتِ﴾ بحذف الياء والباقون بإثبات الياء. قال صاحب "الكشاف" : وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ (البقرة : ٢١٠) وقوله :﴿أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ (الأنعام : ١٥٨) ويعضده قراءة من قرأ ﴿وَمَآ﴾ بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل، لأن قوله :﴿حَكِيمٌ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود، وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله :﴿أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل.
فإن قالوا : فما قولك في قوله تعالى :﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾.
قلنا : هناك تأويلات، وأيضاً فهو صريح، فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال : المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم، فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : العامل في انتصاب الظرف هو قوله :﴿لا تَكَلَّمُ﴾ أو إضمار اذكر.
أما قوله :﴿لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِه ﴾ ففيه حذف، والتقدير : لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى.
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ (النحل : ١١١) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣) ومنها قوله تعالى :﴿وَقِفُوهُم إِنَّهُم﴾ (الصافات : ٢٤) ومنها قوله :﴿هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ (المرسلات : ٣٥).
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٠٤
والجواب من وجهين : الأول : أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة. الثاني : أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
أما قوله :﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الضمير في قوله :﴿فَمِنْهُمْ﴾ لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله :﴿لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِه ﴾ يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله :﴿مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ﴾ (هود : ١٠٣).
المسألة الثانية : قوله :﴿فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ﴾ يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل : أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين ؟
قلنا : المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل : قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه ؟
قلنا : لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضاً أن يقال : إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضاً لا يحاسبون، لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
فإن قيل : القاضي استدل بهذه الآية أيضاً على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو يكون عقابه زائداً، فأما من كان ثوابه مساوياً لعقابه فإنه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود.


الصفحة التالية
Icon