المسألة الثالثة : قال الواحدي : الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء. قال صاحب "الكشاف" : الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل : القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة.
ثم قال تعالى :﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾ وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك.
فإن قيل : فلم لم يقل فيكيدوك كما قال :﴿فَكِيدُونِى﴾ (هود : ٥٥).
قلنا : هذه اللام تأكيد للصلة كقوله ﴿لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ﴾، وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك، وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك. قال أهل التحقيق : وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٢٢
ثم قال :﴿إِنَّ الشَّيْطَـانَ لِلانسَـانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً : أولها : قوله :﴿وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام. قال الزجاج : الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء، فقال الحسن : يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون : المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه. وثانيها : قوله :﴿وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ﴾ وفيه وجوه : الأول : المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم. قالوا : إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية، والثاني : تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، والثالث : الأحاديث جمع حديث، / والحديث هو الحادث، وتأويلها مآلها، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته، وثالثها : قوله :﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ا ءَالِ يَعْقُوبَ﴾.
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة. أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد. وأما سعادات الآخرة : فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى. وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور : الأول : أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان. وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة، والثاني : قوله :﴿كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى ا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ ﴾ ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٢٢
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال :﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ا ءَالِ يَعْقُوبَ﴾ وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده. وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال :﴿إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟
قلنا : ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.


الصفحة التالية
Icon