واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" :﴿لا تَأْمَانَّا﴾ قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام، والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به.
المسألة الثانية : في ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ خمس قراآت :
القراءة الأولى : قرأ ابن كثير : بالنون، وبكسر عين نرتع من الارتعاء، ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت، يقال : رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته، وقوله :/ الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم، لأن المعنى نرتع إبلنا، ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي، والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره.
القراءة الثانية : قرأ نافع : كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان.
القراءة الثالثة : قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون وجزم العين ومثله نلعب. قال ابن الأعرابي : الرتع الأكل بشره، وقيل : إنه الخصب، وقيل : المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان، وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء ؟
فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال لجابر :"فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك" وأيضاً كان لعبهم الاستباق، والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم : إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
القراءة الرابعة : قرأ أهل الكوفة : كليهما بالياء وسكون العين، ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٢٦
القراءة الخامسة :﴿غَدًا يَرْتَعْ﴾ بالياء ﴿وَنَلْعَبُ ﴾ بالنون وهذا بعيد، لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب، والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٢٦
٤٢٧
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين : أحدهما : أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني : خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به. قيل : إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف، فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم الحجة، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. وقيل : الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة، وقرىء ﴿الذِّئْبُ﴾ بالهمز على الأصل وبالتفخيف. وقيل : اشتقاقه من / تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة، فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم :﴿ لئن أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ﴾ وفيه سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة اللام في قوله :﴿ لئن أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾.
والجواب من وجهين : الأول : أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزماً للجزاء، أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون، فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام. الثاني : قال صاحب "الكشاف" هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره : والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين.
السؤال الثاني : ما فائدة الواو في قوله :﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾.
الجواب : أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذاً لقوم خاسرون.
السؤال الثالث : ما المراد من قولهم :﴿إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ﴾.
الجواب فيه وجوه : الأول : خاسرون أي هالكون ضعفاً وعجزاً، ونظيره قوله تعالى :﴿وَ لئن أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ﴾ (المؤمنون : ٣٤) أي لعاجزون : الثاني : أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون. الثالث : المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. الرابع : أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا : لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٢٧
السؤال الرابع : أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر ؟
والجواب : أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول، وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه.


الصفحة التالية
Icon