والوجه الثاني : أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
والوجه الثالث : أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل : المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل. أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلاً، والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر "استفت قلبك/ ولو أفتاك المفتون" فليتأمل الرجل تأملاً شافياً، أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا ؟
فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة. ولما ذكر يعقوب قوله :﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ قال :﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ والمعنى : أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله :﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ يجري مجرى قوله :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (الفاتحة : ٥) وقوله :﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ يجري مجرى قوله :﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة : ٥).
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٣٢
٤٣٤
اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة، فقال :﴿وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ يعني رفقة تسير للسفر. قال ابن عباس : جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة، وقيل : كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له : مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء، والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم ﴿فَأَدْلَى دَلْوَه ﴾ ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال : أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج، والدلو معروف، والجمع دلاء ﴿قَالَ يَـابُشْرَى هَـاذَا غُلَـامٌ ﴾ وههنا محذوف، والتقدير : فظهر يوسف قال المفسرون : لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى، فقال : يا بشرى. وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿بُشْرَا ﴾ بغير الألف وبسكون الياء، والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة.
المسألة الثانية : في قوله :﴿الرِّيَـاحَ بُشْرَا ﴾ قولان :
القول الأول : أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم : يا عجباً من كذا وقوله :﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان : الأول : قال الزجاج : معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت : يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا. الثاني : قال أبو علي : كأنه يقول : يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك، ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور.
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا : نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٣٤
والقول الثاني : وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد. وعن الأعمش أنه قال : دعا امرأة اسمها بشرى ﴿الرِّيَـاحَ بُشْرَا ﴾ قال أبو علي الفارسي : إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل : يا رجل لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير : أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول : يا رجلاً ﴿يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ (يس : ٣٠).
وأما قوله تعالى :﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَـاعَةً ﴾ ففيه مسألتان :