والجواب عن الأول : أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال.
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال :﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا ﴾ فقيل : إن هذا من قول العزيز، وقيل : إنه من قول الشاهد، ومعناه : أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال :﴿وَاسْتَغْفِرِى لِذَنابِكِ﴾ وظاهر ذلك طلب المغفرة، / ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح، وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله، لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع، إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال :﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ (يوسف : ٢٩) وعلى هذا التقدير : فيجوز أن يكون القائل هو الزوج. وقوله :﴿إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِـاِينَ﴾ نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم، وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف، لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي. وقال أبو بكر الأصم : إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار. قال صاحب "الكشاف" : وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير، تغليباً للذكور على الإناث، ويحتمل أن يقال : المراد إنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك. والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٤٧
٤٥٠
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لم لم يقل :﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ قلنا لوجهين : الأول : أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث، الثاني : قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
المسألة الثانية : قال الكلبي : هن أربع، امرأة ساقي العزيز. وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه. وامرأة صاحب دوابه، وزاد مقاتل وامرأة الحاجب. والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء. وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة ﴿تُرَاوِدُ فَتَـاـاهَا عَن نَّفْسِه ﴾ الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الشغاف فيه وجوه : الأول : أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله :﴿شَغَفَهَا حُبًّا ﴾ أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب. والثاني : أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه. والثالث : قال الزجاج : الشغاف حبة القلب وسويداء القلب. والمعنى : أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها، وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم.
المسألة الثانية : قرأ جماعة من الصحابة والتابعين بالعين. قال ابن السكيت : يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق، وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال : الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه. وقال ابن الأنباري : الشعف رؤوس الجبال، ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٠
المسألة الثالثة : قوله : نصب على التمييز.
ثم قال :﴿حُبًّا إِنَّا لَنَرَاـاهَا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله :﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (يوسف : ٨).
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـاًا﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : المراد من قوله :﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه : الأول : أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن. الثاني : أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر، فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً. الثالث : أنهن وقعن في غيبتها، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر.