والوجه الثاني : وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة، وجواذب الغضب، ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى، ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة، وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانية، فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر، وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية.
فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة ؟
فالجواب قد سبق. والله أعلم.
المسألة الخامسة : القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا : لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام. فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته، وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر، ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر، أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن، والأول باطل لوجهين : الأول : أنهم وصفوه بكونه كريماً، وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة، والثاني : أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة. أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب، والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة.
وإذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة، فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن، لا في الصورة الظاهرة، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل، فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٠
المسألة السادسة : لغة أهل الحجاز إعمال "ما" عمل ليس وبها ورد قوله :﴿مَا هَـاذَا بَشَرًا﴾ ومنها قوله :﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ ﴾ (المجادلة : ٢) ومن قرأ على لغة بني تميم. قرأ ﴿مَا هَـاذَا بَشَرًا﴾ وهي قراءة ابن مسعود وقرىء ﴿مَا هَـاذَا بَشَرًا﴾ أي ما هو بعبد مملوك للبشر ﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ ثم نقول : ما هذا بشراً، أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى، وتقول : هذا لك بشراً أم بكراً، والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف، ولمقابلة البشر للملك.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٠
٤٥١
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين، عظم ذلك / عليها فجمعتهن ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَه ا أَكْبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها.
فإن قيل : فلم قالت :﴿فَذَالِكُنَّ﴾ مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً ؟
والجواب عنه من وجوه : الأول : قال ابن الأنباري : أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني : وهو الذي ذكره صاحب "الكشاف" وهو أحسن ما قيل : إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني، فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت : هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني : أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة.
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت :﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّه عَن نَّفْسِه فَاسْتَعْصَمَ ﴾.
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة، وعن السدي أنه قال :﴿فَاسْتَعْصَمَ ﴾ بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب.
ثم قال :﴿وَلَـاـاِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُه لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّـاغِرِينَ﴾ والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام، وقوله :﴿وَلَيَكُونًا﴾ كان حمزة والكسائي يقفان على ﴿وَلَيَكُونًا﴾ بالألف، وكذلك قوله :﴿لَنَسْفَعَا ﴾ (العلق : ١٥) والله أعلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥١
٤٥٢