المسألة الأولى : اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له، فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها، فلم يلتفت يوسف إليها، فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه، وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة، فهذا هو المراد من قوله ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنا بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه حَتَّى حِينٍ﴾ لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه / في الأول، والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر، وخمش الوجه، وإلزام الحكم أياها بقوله :﴿إِنَّه مِن كَيْدِكُنَّا إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ (يوسف : ٢٨) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة.
المسألة الثالثة : قوله : فعل وفاعله في هذا الموضع قوله :﴿الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه ﴾ وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر، إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز، فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة، فعند هذا قالوا : تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه، إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم، وأقول : الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز، لأنا نقول : الاسم قد يكون خبراً كقولك : زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه، بل نقول في هذا المقام : شكوك أحدها : أنا إذا قلنا : ضرب فعل فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب، فالفعل صار مخبراً عنه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٥
فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول : فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل، بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه : أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل، وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في "كتب المعقولات".
المسألة الثالثة : قال أهل اللغة : الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه، وعلى الطويل، وقال ابن عباس : يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، ثم قيل : الحين ههنا خمس سنين، وقيل : بل سبع سنين، وقال مقاتل بن سليمان : حبس يوسف اثنتي عشر سنة، والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى :﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ (يوسف : ٤٥).
أما قوله تعالى :﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾ فههنا محذوف، والتقدير : لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله :﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾ عليه قيل : هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير ؟
والجواب : لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا، ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك.
السؤال الثاني : كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك :
الجواب : لقوله :﴿فَيَسْقِى رَبَّه خَمْرًا ﴾ (يوسف : ٤١) أي مولاه ولقوله :﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ (يوسف : ٤٢).
السؤال الثالث : كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك، والآخر صاحب طعامه ؟
والجواب : رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً.
السؤال الرابع : كيف وقعت رؤية المنام ؟
والجواب : فيه قولان :
القول الأول : أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين، هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً. قال ابن مسعود : ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٥


الصفحة التالية
Icon