الحجة الأولى : قوله :﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ وتقرير هذه الحجة أن نقول : إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل، وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا :﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار.
والحجة الثانية : أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة، فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها، ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار، فقوله :﴿ءَأَرْبَابٌ﴾ إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله :﴿مُّتَفَرِّقُونَ﴾ إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر، واللون والشكل، وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله :﴿مُّتَفَرِّقُونَ﴾ إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٠
والحجة الثالثة : أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته، لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك، وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما، وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو/ فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية.
الحجة الرابعة : أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة، والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى.
الحجة الخامسة : وهي شريفة عالية، وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً، إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه، فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً، وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس. فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة، وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان :
السؤال الأول : لم سماها أرباباً وليست كذلك.
والجواب : لاعتقادهم فيها أنها كذلك، وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير : والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار.
السؤال الثاني : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار ؟
الجواب : أنه خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم قال :﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِه إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ ﴾ وفيه سؤال : وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية :﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ وذلك يدل على وجود هذه المسميات. ثم قال عقيب تلك الآية :﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِه إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ﴾ وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٠


الصفحة التالية
Icon