المسألة الأولى : اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً، وعلى هذا القول وجهان : الأول : أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين، وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي. قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن. قال تعالى :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ﴾ (البقرة : ٤٦) وقال :﴿إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ (الحاقة : ٢٠) والثاني : أن تحمل هذا الظن على حقيقة / الظن، وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي، بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم، وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان.
والقول الثاني : أن هذا الظن صفة الناجي، فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته، ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه، فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن.
المسألة الثانية : قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك ﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ أي عند الملك. والمعنى : اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه، ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس، فهذا هو المراد من الذكر.
ثم قال تعالى :﴿فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه ﴾ وفيه قولان : الأول : أنه راجع إلى يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه، وعلى هذا القول ففيه وجهان : أحدهما : أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه، وتقريره من وجوه : الأول : أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله، وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام، فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال : هل من حاجة، فقال أما إليك فلا، فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض، وذلك التوحيد، ودعاه إلى عرض الحاجة إلى المخلوقين، ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين، والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين، وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين : أحدهما : أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه، الثاني : أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٣
الوجه الثاني : أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان ﴿مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا﴾ ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال :﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً، بل حكم عليه بالربوبية كما يقال : رب الدار، ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب.
الوجه الثالث : أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وذلك نفي للشرك على الإطلاق، وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى، فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد.
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين / فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب.
الوجه الثاني : في تأويل الآية أن يقال : هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك، إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك.
القول الثاني : أن يقال إن قوله :﴿فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ ذِكْرَ رَبِّه ﴾ راجع إلى الناجي والمعنى : أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر ﴿فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ بهذا السبب، ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال :"رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن" وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله، وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه : ما حاجتك قال : أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف، وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال : طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي.


الصفحة التالية
Icon