المسألة الأولى : قال الليث : العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث. وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا : سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض، واللام في قوله :﴿لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ﴾ على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل، وقال صاحب "الكشاف" : يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبراً آخر أو حالاً، ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيراً إذا فسرتها، وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر، وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر، والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر، لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر، والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى :﴿وَخُذْ بِيَدِكَ﴾ (ص : ٤٤).
إذا عرفت هذا فنقول : الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث.
المسألة الثانية : أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام من السجن، وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه، لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوماً من وجه وبقي مجهولاً من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة، وكان ذلك الشيء دالاً على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا، ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من تلك المحنة.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٤
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير، بل قالوا : إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها/ فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٦٤
٤٦٥
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب. فهذا هو قوله :﴿بِعَـالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا﴾.
وأما قوله :﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ فنقول : سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى :﴿مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر : ٥١) في سورة القمر قال صاحب "الكشاف" ﴿وَادَّكَرَ﴾ بالدال هو الفصيح عن الحسن ﴿وَاذْكُرْ﴾ بالذال أي تذكر، وأما الأمة ففيه وجوه : الأول :﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي بعد حين، وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني : قرأ الأشهب العقيلي ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي :
ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
والمعنى : بعدما أنعم عليه بالنجاة. الثالث : قرىء ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم، وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان.
فإن قيل : قوله :﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام.


الصفحة التالية
Icon