اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران، فلا جرم قال تعالى :﴿وَقَالَ مُوسَى ا إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ﴾ والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ﴾ وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنياً، وقد فرضناه غنياً هذا خلف، فثبت أن كونه غنياً يوجب كونه واجب الوجود في ذاته، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته، كان أيضاً واجب الوجود بحسب جميع كمالاته، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل، فحينئذ لا يكون غنياً، وقد فرضناه غنياً هذا خلف، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته، وإذا كان الأمر كذلك كان حميداً لذاته، لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد، فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنياً حميداً يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين، ولا ينتقص بكفران الكافرين، فلهذا المعنى قال :﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ﴾ وهذه المعاني من لطائف الأسرار.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٠
واعلم أن قولنا :﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر، فالمعنى لا يتفاوت ألبتة، فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله.
ثم إنه تعالى قال :﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ﴾ وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى، والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه اتبداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلّم.
واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة، وهم : قوم نوح وعاد وثمود.
ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه ﴾ وذكر صاحب "الكشاف" فيه احتمالين : الأول : أن يكون قوله :﴿وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِم لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه ﴾ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً. والثاني : أن يقال قوله :﴿وَالَّذِينَ مِنا بَعْدِهِمْ ﴾ معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله :﴿لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّه ﴾ فيه قولان :
القول الأول : أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله، لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل.
والقول الثاني : أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً، ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد، وعن ابن عباس : بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿وَقُرُونَا بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيرًا﴾ (الفرقان : ٣٨) وقوله :﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ (عافر : ٧٨) وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد. وقال :"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق" قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت، لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٠
فإن قيل : أي القولين أولى ؟


الصفحة التالية
Icon