الوجه الرابع : أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته، فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره. وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار.
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف، وبوجود المعاد أحوط، فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة : أولها : أن الإقرار بوجود الإله أحوط، لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار. وثانيها : الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً فلا ضرر في الإقرار بكونه مختاراً. أما لو كان مختاراً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار. وثالثها : الإقرار بأنه كلف عباده، لأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد، أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار. ورابعها : الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده، لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٤
المسألة الثالثة : لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السموات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين، الأول : قوله :﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ قال صاحب "الكشاف" : لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم، ثم أجاب فقال : ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله :﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ (نوح : ٣، ٤). ﴿طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِه يَغْفِرْ لَكُم مِّن﴾ (الأحقاف : ٣١) وقال في خطاب المؤمنين :﴿هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الصف : ١٠) إلى أن قال :﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران : ٣١) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه، ثم قال : وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد، وقيل : إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. هذا كلام هذا الرجل، وقال الواحدي في "البسيط"، قال أبو عبيدة (من) زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب، وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان : أحدهما : أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعاً. والثاني : أن (من) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة، وقال القاضي : ذكر الأصم أن كلمة (من) ههنا تفيد التبعيض، والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر، فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة، قال القاضي : وقد أبعد في هذا التأويل، لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء / منها مغفوراً. ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة.
المسألة الرابعة : أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال :﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة، فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٧٤


الصفحة التالية
Icon