الوجه الأول : أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
والوجه الثاني : أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم.
والوجه الثالث : أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى :﴿ذالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ﴾.
المسألة الثالثة : قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم، وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك : يوم ماطر وليلة ساكرة، وإنما السكور لريحها قال الفراء : وإن شئت قلت / في يوم ذي عصوف، وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك، وقرىء في يوم عاصف بالإضافة.
المسألة الرابعة : قوله :﴿لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ ﴾ أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد/ وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله.
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة، بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي :﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله :﴿فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ (إبراهيم : ١٠). ﴿فَالِقُ الاصْبَاحِ﴾ (الأنعام : ٩٥). و﴿وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا﴾ (الأنعام : ٩٦) والباقون خلق على فعل الماضي :﴿السَّمَآءِ وَالارْضِ ﴾ بالنصب لأنه مفعول.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٢
المسألة الثالثة : قوله :﴿بِالْحَقِّ﴾ نظير لقوله في سورة يونس :﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ إِلا بِالْحَقِّ ﴾ (يونس : ٥) ولقوله في آل عمران :﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا﴾ (آل عمران : ١٩١) ولقوله في ص :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ﴾ (ص : ٢٧) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأما المعتزلة فيقولون : إلا بالحق، أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
ثم قال تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ والمعنى : أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى، لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى. قال ابن عباس : هذا الخطاب مع كفار مكة، يريد أميتكم يا معشر الكفار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
ثم قال :﴿وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٢
٨٤
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة، ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم. وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء. ومنه يقال للمكان الواسع : البراز لظهوره، وقيل في قوله :﴿وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً﴾ (الكهف : ٤٧) أي ظاهرة لا يسترها شيء، وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس. ويقال : برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدها. قيل : برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر.
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا أبحاث :
البحث الأول : قوله :﴿وَبَرَزُوا ﴾ ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال، لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله :﴿وَنَادَى ا أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ﴾ (الأعراف : ٥٠).


الصفحة التالية
Icon