المسألة الثانية : قرأ حمزة : بمصرخي بكسر الياء. قال الواحدي : وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب. قال الفراء : ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله ﴿بِمُصْرِخِىَّ ﴾ خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال، ومما نرى أنهم وهموا فيه قوله :﴿نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِه جَهَنَّمَ ﴾ (النساء : ١١٥) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ، لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه، ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٩
ثم قال تعالى حكاية عنه :﴿إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُا إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :"ما" في قوله :﴿إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُا إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فيه قولان : الأول : إنها مصدرية والمعنى : كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة، والمعنى : أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكاً لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به، أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك. والثاني : وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم، والمعنى : أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله :(ما) في هذا الموضع "من" والقول هو الأول، لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول/ ويمكن أن يقال أيضاً الكلام منتظم على التفسير الثاني، والتقدير كأنه يقول : لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام.
أما قوله :﴿إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام، ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٩
٨٩
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة، شرح أحوال السعداء، وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى :﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ﴾ وكونها دائمة أشير إليه بقوله :﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ﴾ والتعظيم حصل من وجهين : أحدهما : أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره. والثاني : قوله :﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ﴾ لأن بعضهم يحيي بعضاً بهذه الكلمة، والملائكة يحيونهم بها كما قال :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم﴾ (الرعد : ٢٣) والرب الرحيم يحييهم أيضاً بهذه الكلمة كما قال :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨).
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون آلامها وأسقامها، وأنواع غمومها وهمومها، وما أصدق ما قالوا، فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم، لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية.
المسألة الثانية : قرأ الحسن :﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ على معنى وأدخلهم أنا، وعلى هذه القراءة فقوله :﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بما بعده، أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم. يعني : أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٨٩
٩٣
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء، ذكر مثالاً يبين الحال في حكم هذين القسمين، وهو هذا المثل. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
فالصفة الأولى : لتلك الشجرة كونها طيبة، وذلك يحتمل أموراً. أحدها : كونها طيبة المنظر والصورة والشكل. وثانيها : كونها طيبة الرائحة. وثالثها : كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة. ورابعها : كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها، ويجب حمل قوله : شجرة طيبة، على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب.


الصفحة التالية
Icon