المسألة الثالثة : قال ابن عباس : الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين. وقال صاحب "الكشاف" : إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان، وأراد بشجرة طيبة الثمرة، إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها، أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت، وفرعها أي أعلاها في السماء، والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء ﴿تُؤْتِى ﴾ أي هذه الشجرة ﴿أُكُلُهَا﴾ أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين، واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر، لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، جاء رجل إلى ابن عباس فقال : نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين، فقال : الحين ستة أشهر، وتلا قوله تعالى :﴿تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين ﴾ وقال مجاهد وابن زيد : سنة، لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة. وقال سعيد بن المسيب : شهران، لأن مدة إطعام النخلة شهران. وقال الزجاج : جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت، والمراد من قوله :﴿تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين ﴾ أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أو صيفاً. قالوا : والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة. وأقول : هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية، إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود، لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة، ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه/ سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن، لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب، والله أعلم بالأمور.
ثم قال :﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم، / فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٣
وأما قوله تعالى :﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾.
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله، فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة :
الصفة الأولى : أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم، لأنه صلى الله عليه وسلّم وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة، وقيل : إنها الكراث. وقيل : إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل : إنها شجرة الشوك.
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه، فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم، وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة، إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب.
والصفة الثانية : قوله :﴿اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ﴾ وهذه الصفة في مقابلة قوله :﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها، وقوله :﴿مِن فَوْقِ الارْضِ﴾ معناه : ليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
والصفة الثالثة : قوله ما لها من قرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية، والمعنى أنه ليس لها استقرار. يقال : قر الشيء قراراً كقولك : ثبت ثباتاً، شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت.
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال، وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة، وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله :﴿خَبِيثَةٍ﴾ وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله :﴿اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٣
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتاً، وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم، وثبات ثوابه عليهم، والمقصود : بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله :﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ﴾ أي على الثواب والكرامة، وقوله :﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ ﴾ أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا.


الصفحة التالية
Icon