المسألة الثالثة : اللام في قوله :﴿لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِه ﴾ لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي، أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء / بالضم فإنه يحتمل الوجهين، وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم. وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل. وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى، والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز، فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال :﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت، فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم، فلهذا المعنى قال :﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً/ فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى :﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى :﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ (فصلت : ٤٠) وكقوله :﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ﴾ (الزمر : ٨).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٥
٩٦
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي ﴿لِّعِبَادِىَ﴾ بسكون الياء، والباقون : بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب.
المسألة الثانية : في قوله :﴿يُقِيمُوا ﴾ وجهان : الأول : يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره : قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. الثاني : يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر، أي ليقيموا كقولك : قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام، لأن قوله :﴿قُلْ﴾ عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز.
المسألة الثالثة : أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله. أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب / صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى. فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى :﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة : ٣).
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً، لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح، ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام. وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً.
المسألة الخامسة : في انتصاب قوله :﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ وجوه : أحدها : أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين. وثانيها : على الظرف أي وقت سر وعلانية. وثالثها : على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب.
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال :﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلَـالٌ﴾ قال أبو عبيدة : البيع ههنا الفداء والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة، وهي المصادقة. قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة :﴿لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ ﴾ (البقرة : ٢٥٤).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٦
فإن قيل : كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين، مع أنه تعالى أثبتها في قوله :﴿الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف : ٦٧).
قلنا : الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس، والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٩٦
١٠٠


الصفحة التالية
Icon