البحث الأول : أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية. فإن قيل : ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد ؟
قلنا ؛ أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال : لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه / للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال، وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه.
البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه، ومنهم من حمله على ظاهر قوله :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه.
البحث الثالث : الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له.
الحجة الخامسة : قوله تعالى :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ﴾ واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات، وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار.
الحجة السادسة والسابعة : قوله :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآاـاِبَيْنِ ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٠
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله :﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ (نوح : ١٦) ومنها قوله :﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الرحمن : ٥) ومنها قوله :﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا﴾ (الفرقان : ٦١) ومنها قوله :﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ (يونس : ٥) وقوله :﴿دَآاـاِبَيْنِ ﴾ معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله :﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ (يوسف : ٤٧) قال المفسرون : قوله :﴿دَآاـاِبَيْنِ ﴾ معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب.
الحجة الثامنة والتاسعة : قوله :﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾.
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ (النبأ : ١٠، ١١) وقوله :﴿اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ قال المتكلمون : تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان، والأعراض لا تسخر.
والحجة العاشرة : قوله :﴿وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه ﴾ ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال :﴿وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه ﴾ والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً، وقرىء :﴿مِن كُلِّ﴾ بالتنوين و﴿مَا سَأَلْتُمُوه ﴾ نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون "ما" موصولة والتقدير : آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾ قال الواحدي : النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال : أنعم الله عليه، ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله : أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر، ومعنى قوله :﴿لا تُحْصُوهَآ ﴾ أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٠


الصفحة التالية
Icon