والجواب عن السؤال الثالث من وجوه : الأول : قال صاحب "الكشاف" : قوله (وبني) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله :﴿وَاجْنُبْنِى﴾. والثاني : قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم. الثالث : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً، والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن. وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة، وهذا الجواب ليس بقوي، لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك. الرابع : أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية :﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى ﴾ وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى لنوح :﴿إِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَا إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ ﴾ (هود : ٤٦). والخامس : لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام، ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام :﴿قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ (البقرة : ١٢٤).
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٣
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بقوله :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى، وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد، لأنه عدول عن الظاهر، ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال :﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ﴾ واتفق كل الفرق على أن قوله :﴿أَضْلَلْنَ﴾ مجاز لأنها جمادات، والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة، إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
ثم قال :﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى ﴾ يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني، أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته، والدليل عليه أن قوله :﴿وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول : أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك، والأول باطل من وجهين : الأول : أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ وأيضاً قوله :﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّه مِنِّى ﴾ يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه / على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته. والثاني : أن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، ولما بطل هذا ثبت أن قوله :﴿وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار.
وإذا ثبت هذا فنقول : تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني باطلان لأن قوله :﴿وَمَنْ عَصَانِى﴾ اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلّم لوجوه : الأول : أنه لا قائل بالفرق. والثاني : وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد صلى الله عليه وسلّم لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام. والثالث : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام : ٩٠) وقوله :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد صلى الله عليه وسلّم وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر. والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٣


الصفحة التالية
Icon