واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم، ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، فقال :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ ﴾ والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسمعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا ؟
فقال إلى الله أكلكم، قالت آلله أمرك بهذا ؟
قال نعم : قالت إذن لا نخشى.
ثم قال :﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ وفيه قولان : أحدهما : أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله :﴿وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النحل : ٣٤) والثاني : أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان/ ولفظ "من" يفيد الاستغراق كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما.
ثم قال :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة، فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة، ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة، وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر قوله :﴿عَلَى الْكِبَرِ﴾ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم، من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم.
فإن قيل : إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٧
قلنا قال القاضي : هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء. ويمكن أيضاً أن يقال : إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه.
البحث الثاني : على في قوله :﴿عَلَى الْكِبَرِ﴾ بمعنى مع كقول الشاعر :
إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه : وهب لي في حال الكبر.
البحث الثالث : في المناسبة بين قوله :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُا وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ وبين قوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ ﴾ وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا / المطلوب، بل قال :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ ﴾ أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم قال :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ ﴾ وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه لاسلام حاكياً عن ربه أنه قال :"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين" ثم قال :﴿إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾.
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال :﴿إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله : سميع الدعاء. من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده.
المطلوب الخامس : قوله :﴿رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام :﴿وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ﴾ يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله :﴿رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٠٧


الصفحة التالية
Icon