اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَ ﴾ (إبراهيم : ٤٢) وقال في هذه الآية :﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا ﴾ والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين، لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد، ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله :﴿مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا ﴾ يعني قوله :﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا﴾ (غافر : ٥١) وقوله :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى ﴾ (المجادلة : ٢١).
فإن قيل : هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول ؟
قلنا : ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً، إن الله لا يخلف الميعاد، ثم قال :﴿رُسُلَه ا ﴾ ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته، وقرىء :﴿مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه ا ﴾ بجر الرسل ونصب الوعد، والتقدير : مخلف رسله وعده، وهذه القراءة في الضعف، كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال :﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١١
١١٦
اعلم أن الله تعالى لما قال :﴿عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ بين وقت انتقامه فقال :﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ﴾ وعظم من حال ذلك اليوم، لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين، إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله :﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾.
المسألة الثانية : اعلم أن التبديل يحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى. والثاني : أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى، والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز، أنه يقال بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل، ومنه قوله تعالى :﴿فَ أولئك يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ ﴾ (الفرقان : ٧٠) ويقال : بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة إلى صفة أخرى، ويقال : تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه قوله :﴿بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ (النساء : ٥٦) وقوله :﴿وَبَدَّلْنَـاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ (سبأ : ١٦) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان :
القول الأول : أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً" وقوله : أي تبدل السموات غير السموات، وهو كقوله عليه السلام :"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر، وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وكونها أبواباً، وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٦
والقول الثاني : أن المراد تبديل الذات. قال ابن مسعود : تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة، فهذا شرح هذين القولين، ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله :﴿انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ﴾ المراد هذه الأرض، والتبدل صفة مضافة إليها، وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجوداً، فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل، ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل، وإلا لامتنع حصول التبدل، فوجب أن يكون الباقي هو الذات. فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية، والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون : إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنما يعدم صفاتها وأحوالها.
واعلم أنه لا يبعد أن يقال : المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم/ ويجعل السموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿كَلا إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ﴾ (المطففين : ١٨) وقوله :﴿كَلا إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ﴾ (المطففين : ٧) والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon