واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب، وموضع الفكر والوهم والخيال هو الرأس. وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب :﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْاِدَةِ﴾ (الهمزة : ٦، ٧) وقال في الوجه :﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ بمعنى تتغشى، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال :﴿لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ قال الواحدي : المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان، وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه، لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية، كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور، ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة، كان اللائق بهم هو الثواب وأيضاً أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه. وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا، فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة، وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب.
ثم قال تعالى :﴿هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ﴾ أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس، أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل : إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن، وقيل : بل إشارة إلى كل هذه السورة، وقيل : بل إشارة إلى المذكور من قوله :﴿وَلا تَحْسَبَنَّ﴾ إلى قوله :﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وأما قوله :﴿وَلِيُنذَرُوا بِه ﴾ فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا :﴿وَلِيُنذَرُوا بِه ﴾ أي بهذا البلاغ.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٦
ثم قال :﴿وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب مراراً أن النفس الإنسانية لها شعبتان : القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة / التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء/ معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله.
والشعبة الثانية ؛ القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها، ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ﴾ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله :﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ﴾ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر، إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة، وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين.
المسألة الثانية : هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح، والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل، فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة.
المسألة الثالثة : قال القاضي : أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله، إن شاء أطاع وإن شاء عصى، أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى :﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (إبراهيم : ١) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية، وأما آخر السورة فلأن قوله :﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَابِ﴾ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة، وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية، فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى. واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٦
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله، لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب، فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٦
١١٦


الصفحة التالية
Icon