وهذا الاستدلال ضعيف، لأنا بينا أن كلمة "رب" في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضياً، فأين أحدهما من الآخر ؟
إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي، وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال، ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف، فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته. ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين : الأول : قالوا : إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه، فكأنه قيل : ربما ودوا. الثاني : أن كلمة "ما" في قوله :﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ اسم و﴿يَوَدُّ﴾ صفة له، والتقدير : رب شيء يوده الذين كفروا. قال الزجاج : ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٩
المسألة الخامسة : في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله :/ ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ على محمل آخر، والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال : الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً، وهذا الوجه هو الأصح. وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوهاً. قال الضحاك : المراد منه ما يكون عند الموت، فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلماً. وقيل : إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم، وقيل : بل عند دخولهم النار ونزول العذاب، فإنهم يقولون :﴿أَخِّرْنَآ إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ (إبراهيم : ٤٤) وروى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم : ألستم مسلمين ؟
قالوا بلى، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم، وقد صرتم معنا في النار، فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته، فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار، فيخرجون منها، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية. وعلى هذا القول أكثر المفسرين، وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين، ويخرجهم من النار، ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة، حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة. قال : فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قال القاضي : هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار، وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب، وهذان الأصلان عنده مردودان، فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة، ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين، قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم.
فإن قيل : إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه، والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب.
قلنا : أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا، فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ (الحجر : ٤٧) والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٩
أما قوله تعالى :﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الامَلُا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله :﴿وَيُلْهِهِمُ الامَلُ ﴾ يقال : لهيت عن الشيء الهى لهياً، وجاء في الحديث أن ابن / الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه. قال الكسائي والأصمعي : كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد :
صرمت حبالك فاله عنها زينب
ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها. قال المفسرون : شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون.


الصفحة التالية
Icon