فإن قالوا : هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته. أما إذا قلنا : المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك.
قلنا : قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام، وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده، كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح، فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل، وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل، وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى، وحينئذ لا يعود الإلزام.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله، وأن من قال : يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطىء.
فإن قالوا : هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا﴾ على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.
قلنا : قوله :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا﴾ إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل، فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول : إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت، فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك، والله أعم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٢١
١٢٤
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.
فالشبهة الأولى : أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات : الأول : أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله :﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (القلم : ٥١، ٥٢) وأيضاً قوله :﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ﴾ (الأعراف : ١٨٤). والثاني : أنم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى، فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله :﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله :﴿وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون :﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ (الشعراء : ٢٧) وكما قال قوم شعيب :﴿إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ (هود : ٨٧) وكما قال تعالى :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (آل عمران : ٢١) لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني :﴿وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه. ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم :﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٢٤