اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، ومنها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال :﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّـاهَا لِلنَّـاظِرِينَ﴾ قال الليث : البرج واحد من بروج الفلك، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً، ونظيره قوله تعالى :﴿تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا﴾ (الفرقان : ٦١) وقال :﴿وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ (البروج : ١) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة، وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، وهو المطلوب، وأما قوله :﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّـاهَا لِلنَّـاظِرِينَ * وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَه شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ ﴾ (الملك : ٥) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله :﴿وَزَيَّنَّـاهَا﴾ أي بالشمس والقمر والنجوم ﴿لِلنَّـاظِرِينَ﴾ أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله :﴿وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ﴾.
فإن قيل : ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٠
قلنا : لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد / يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول : معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتيل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة، والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله :﴿لارْجُمَنَّكَ ﴾ أي لأسبنك، والرجم اسم لكل ما يرمى به، ومنه قوله :﴿وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ ﴾ (الملك : ٥) أي مرامي لهم، والرجم القول بالظن، ومنه قوله :﴿رَجْمَا بِالْغَيْبِ ﴾ (الكهف : ٢٢) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد، وقوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت الشياطين لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب. وقوله :﴿إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ لا يمكن حمل لفظة ﴿إِلا﴾ ههنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه : لكن من استرق السمع. قال الزجاج : موضع ﴿مَنِ﴾ نصب على هذا التقدير. قال : وجائز أن يكون في موضع خفض، والتقدير : إلا ممن. قال ابن عباس : في قوله :﴿إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ يريد الخطفة اليسيرة، وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله، ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري. وقوله :﴿فَأَتْبَعَه ﴾ ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله :﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ﴾ (الأعراف : ١٧٥) معناه لحقه، والشهاب شعلة نار ساطع، ثم يسمى الكواكب شهاباً، والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار.


الصفحة التالية
Icon