وأما قوله :﴿فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمْ لَه بِخَـازِنِينَ﴾ ففيه مباحث : الأول : أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب ؟
وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء ؟
وثانيها : أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا :﴿فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ﴾ قال الأزهري : تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له، وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه، ولم يقولوا أسقاه. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله :﴿نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِه ﴾ (النحل : ٦٦) فقرؤا باللغتين، ولم يختلفوا في قوله :﴿وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان : ٢١) وفي قوله :﴿وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ﴾ (الشعراء : ٧٩) قال أبو علي : سقيته حتى روي وأسقيته نهراً، أي جعلته شرباً له وقوله :﴿فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ﴾ أي جعلناه / سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً :
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣
أقول وصوبه مني بعيد
يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال
فقوله : سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به. وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه، وأما قول ذي الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبنه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء، وأقول سقاه الله وقوله :﴿وَمَآ أَنتُمْ لَه بِخَـازِنِينَ﴾ يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٣
١٣٧
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار.
أما قوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ﴾ ففيه قولان : منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول : وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار، وقوله :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ﴾ يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا، وقوله :﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ معناه : أنه إذا مات جميع الخلائق، فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته، ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه.
وأما قوله :﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـاْخِرِينَ﴾ ففيه وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد / المتخلفين عن طاعة الله. الثاني : أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة، وبالمستأخرين الصف الآخر، روي أنه صلى الله عليه وسلّم رغب في الصف الأول في الصلاة، فازدحم الناس عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى : أنا نجزيهم على قدر نياتهم. الثالث : قال الضحاك ومقاتل : يعني في وصف القتال. الرابع : قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. الخامس : قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة، والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقال عكرمة : المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٧
واعلم أنه تعالى لما قال :﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِا وَنُمِيتُ﴾ أتبعه بقوله :﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـاْخِرِينَ﴾ تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة.
وأما قوله :﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله :﴿إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ معناه : أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٣٧
١٣٩
وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon