وأما قوله :﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ ففيه مباحث : الأول : أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر، وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح، وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى :﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ (الإسراء : ٨٥) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً. وقوله :﴿فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ﴾ فيه مباحث : أحدها : أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود، وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة البقرة. وثانيها : أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض، من الناس من لا يجوز أن يقال : إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام، والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة ﴿الاعْرَافِ﴾ في صفة الملائكة :﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه وَيُسَبِّحُونَه وَلَه يَسْجُدُونَ ﴾ فقوله :﴿وَلَه يَسْجُدُونَ ﴾ (الأعراف : ٢٠) يفيد الحصر، وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال : إن قوله تعالى :﴿فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ﴾ يفيد العموم، إلا أن الخاص مقدم على العام. وثالثها : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له، لأن قوله :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَه سَـاجِدِينَ﴾ مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله :﴿فَسَجَدَ الْمَلَـا اـاِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ قال الخليل وسيبويه قوله :﴿كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم، فلما قال :﴿كُلُّهُمْ﴾ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال :﴿أَجْمَعُونَ﴾ ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال : وقول الخليل وسيبويه أجود، لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله :﴿إِلا إِبْلِيسَ﴾ أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا ؟
وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله :﴿أَبَى ا أَن يَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ﴾ استئناف وتقديره أن قائلاً قال : هلا سجد فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤١
أما قوله :﴿قَالَ يَـا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّـاجِدِينَ﴾ فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله :﴿قَالَ يَـا إِبْلِيسُ﴾ أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه، فعند هذا قال / بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله، إلا أن هذا ضعيف، لأن إبليس قال في الجواب :﴿لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَه مِن صَلْصَـالٍ﴾ فقوله :﴿خَلَقْتَه ﴾ خطاب الحضور لا خطاب الغيبة، وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة، وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم، ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا، وقوله :﴿لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَه مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ فيه بحثان :
البحث الأول : اللام في قوله :﴿لِّأَسْجُدَ﴾ لتأكيد النفي، ومعناه : لا يصح مني أن أسجد لبشر.


الصفحة التالية
Icon