وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة.
أما قوله تعالى :﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : الباء في ﴿بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ للقسم وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن. والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم، ونظيره قوله تعالى :﴿فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص : ٨٢) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله/ وهي من صفات الذات، وفي قوله :﴿بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال. والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه. ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا : الباء ههنا بمعنى السبب، أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.
البحث الثاني : اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه : الأول : أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة. الثاني : أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون / ومجتهدون في الضلال والإغواء، فلو كان مراد الله تعالى هو الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين، وحيث فعل بالضد منه، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر. الثالث : أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح، لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر. الرابع : أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه، وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه. الخامس : أنه صرح بأن الله أغواه فقال :﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال : هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة، وأيضاً فهو معارض بقول إبليس :﴿فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فأضاف الإغواء إلى نفسه، لأنا نقول.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٥
أما الجواب عن الأول : فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال.
وأما الجواب عن الثاني : فهو أنه قال في هذه الآية :﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾ فالمراد ههنا من قوله :﴿لازَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾ هو المراد من قوله في تلك الآية :﴿لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك، وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص :﴿هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ (القصص : ٦٣).
السؤال السادس : أنه اقل :﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول : إما أن يقال : إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه، أو ما عرف ذلك، فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل، ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة، وأما إن قلنا : بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول :﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى﴾ فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية.
أما الإشكال الأول : فللمعتزلة فيه طريقان :
الطريق الأول : وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة، لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته، فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته / فإن ذلك الكافر/ والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم أمهله هذه المدة.


الصفحة التالية
Icon