وأما القيد الرابع : وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله :﴿وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال، فإنهم قالوا : المراد من قوله :﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، مبرأة عن حوادث الوهم والخيال، وقوله :﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ﴾ معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام، ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية، وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية، فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية، فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله :﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ﴾ والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٤٩
١٥٠
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : أثبتت الهمزة الساكنة في (نبىء) صورة، وما أثبتت في قوله :﴿دِفْءٌ﴾ لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيراً وتلقى حركتها على الساكن قبلها، فـ(ـنبىء) في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة (نبىء) ساكن فاجرؤها على قياس الأصل :
المسألة الثانية : اعلم أن عباد الله قسمان : منهم من يكون متقياً، ومنهم من لا يكون كذلك، فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة، ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال :﴿بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ عِبَادِى ﴾.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، فههنا وصفهم بكونهم عباداً له، ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً، فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفوراً رحيماً ومن أنكر ذلك كان مستوجباً للعقاب الأليم. وفي الآية لطائف : أحدها : أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله :﴿عِبَادِى ﴾ وهذا تشيف عظيم. ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً / صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لم يزد على قوله :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه ﴾ (الإسراء : ١). وثانيها : أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة : أولها : قوله :﴿أَنِّى ﴾. وثانيها : قوله :﴿إِنَّآ﴾. وثالثها : ادخال حرف الألف واللام على قوله :﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال :﴿وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الالِيمُ﴾. وثالثها : أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. ورابعها : أنه لما قال :﴿نَبِّئْ عِبَادِى ﴾ كان معناه نبىء كل من كان معترفاً بعبوديتي، وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع، فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن قتادة قال : بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه" أي قتلها وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه مر بنفر من أصحابه، وهم يضحكون فقال :"أتضحكون والنار بين أيديكم" فنزل قوله :﴿نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٠
١٥١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء، ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء، فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام، والضمير في قوله :﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ راجع إلى قوله :﴿عِبَادِى ﴾ والتقدير : ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم، يقال : أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا / أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر. وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار.
المسألة الثانية : الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى، ثم سمى به، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة.
فإن قيل : كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل ؟


الصفحة التالية
Icon