المسألة الأولى : اعلم أن معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره. يقال : قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره، وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية، ثم يفسر التقدير بالقضاء، فقال : قضى الله عليه كذا، وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي / في الخير والشر، وقيل في معنى :﴿قَدَّرْنَآ ﴾ كتبنا. قال الزجاج : دبرنا. وقيل : قضينا، والكل متقارب.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٤
المسألة الثانية : قرأ أبو بكر عن عاصم ﴿قَدَّرْنَآ ﴾ بتخفيف الدال ههنا وفي النمل. وقرى الباقون فيهما بالتشديد. قال الواحدي يقال : قدرت الشيء وقدرته، ومنه قراءة ابن كثير :﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ (الواقعة : ٦٠) خفيفاً، وقراءة الكسائي :﴿وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ ثم قال : والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالاً لقوله تعالى ؛ ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ (فصلت : ١٠) وقوله :﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا﴾.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى، ولم لم يقولوا : قدر الله تعالى ؟
والجواب : إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله ؛ ﴿إِنَّهَا لَمِنَ الْغَـابِرِينَ﴾ في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون. ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٤
١٥٤
اعلم أن الملائكة لما بشروا إبراهيم بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وإلى آله، وأن لوط وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله، فلهذا قال لهم :﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ وفي تأويله وجوه : الأول : أنه إنما وصفهم بأنهم منكرون، لأنه عليه الصلاة والسلام ما عرفهم، فلما هجموا عليه استنكر منهم ذلك وخاف أنهم دخلوا عليه لأجل شر يوصلونه إليه، فقال هذه الكلمة. والثاني : أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليه بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. والثالث : أن النكرة ضد المعرفة فقوله :﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي لا أعرفكم، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم علي، فعند هذه الكلمة قالت الملائكة، بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله، ثم أكدوا / ما ذكروه بقولهم :﴿وَأتَيْنَـاكَ بِالْحَقِّ﴾ قال الكلبي : بالعذاب، وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو عذاب أولئك الأقوام ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم ؛ ﴿وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٤
١٥٥
قرىء ﴿فَأَسْرِ﴾ بقطع الهمزة ووصلها من أسرى وسرى. وروى صاحب الكشاف عن صاحب الإقليد فسر ﴿مَنِ﴾ السير والقطع آخر الليل. قال الشاعر :
افتحي الباب وانظري في النجوم
كم علينا من قطع ليل بهيم
وقوله :﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَـارَهُمْ﴾ معناه : اتبع آثار بناتك وأهلك. وقوله :﴿وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ الفائدة فيه أشياء : أحدها : لئلا يتخلف منكم أحد فينا له العذاب. وثانيها : لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من البلاء. وثالثها : معناه الإسراع وترك الاهتمام لما خلف وراءه كما تقول : امض لشأنك ولا تعرج على شيء. ورابعها : لو بقي منه متاع في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه ألبتة. وقوله :﴿وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ قال ابن عباس : يعني الشام. قال المفضل : حيث يقول لكم جبريل. وذلك لأن جبريل عليه السلام أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة أهلها ما عملوا مثل عمل قوم لوط. وقوله :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ﴾ عدى قضينا بإلى، لأنه ضمن معنى أوحينا، كأنه قيل : وأوحيناه إليه مقضياً مبتوتاً، ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل ﴾ (الإسراء : ٤) وقوله ؛ ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ﴾ (يونس : ٧١) ثم إنه فسر بعد ذلك القضاء المبتوت بقوله :﴿أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ﴾ وفي إبهامه أولاً، وتفسيره ثانياً تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش ﴿ءَانٍ﴾ بالكسر على الاستئناف كان قائلاً قال أخبرنا عن ذلك الأمر، فقال : إن دابر هؤلاء، وفي قراءة ابن مسعود. وقلنا :﴿أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ﴾ ودابرهم آخرهم، يعني يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله :﴿مُّصْبِحِينَ﴾ أي حال ظهور الصبح.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٥٥
١٥٦


الصفحة التالية
Icon