ولقائل أن يقول : قوله ؛ ﴿فَيَوْمَا ِذٍ لا يُسْاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ (الرحمن : ٣٩) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٦٥
والوجه الثالث : أن نقول : قوله :﴿فَيَوْمَا ِذٍ لا يُسْاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ يفيد عموم النفي وقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام. أما قوله :﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل، وأنشد ابن السكيت لجرير :
هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم
بالحق يصدع ما في قوله حيف
فقال يصدع يفصل، وتصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قوله تعالى :﴿يَوْمَا ِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ (الروم : ٤٣) قال الفراء : يتفرقون. والصدع في الزجاجة الإبانة، أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعاً لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق. قال الأزهري : وسمي الصبح صديعاً كما يسمى فلقاً. وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح.
إذا عرفت هذا فقول :﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ أي فرق بين الحق والباطل، وقال الزجاج : فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً كقولك صرح بها، وهذا في الحقيقة يرجع أيضاً إلى الشق والتفريق، أما قوله :﴿بِمَا تُؤْمَرُ﴾ ففيه قولان : الأول : أن يكون "ما" بمعنى الذي / أي بما تؤمر به من الشرائع، فحذف الجار كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
الثاني : أن تكون "ما" مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك. قالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلّم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية.
ثم قال تعالى :﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعضهم : هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف، لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً.
ثم قال :﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ﴾ قيل : كانوا خمسة نفر من المشركين : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس، فامتخط قيحاً فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٦٥
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شيء منها، والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٦٥
١٦٧
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له :﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له :﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة / واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن ؟
فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق، فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه، وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول : تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات، وقوله :﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.
فإن قيل : فأن فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات ؟
قلنا : المراد منه :﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة، والله أعلم.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٦٧


الصفحة التالية
Icon