المسألة الثانية : في الآية فوائد : الفائدة الأولى : أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة :﴿وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه ﴾ (البقرة : ٢٨٥) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى، ثم بذكر الملائكة، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧١
إذا عرفت هذا فنقول : إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي. وبتقدير أن يكون استدلالياً فكيف الطريق إليه ؟
وأيضاً الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكاً صادقاً لا شيطاناً رجيماً ضروري أو استدلالي فإن كان استدلالياً فكيف الطريق إليه ؟
فهذه مقامات ضيقة، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول. فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول : هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول : لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقاً معصوماً عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمداً صلى الله عليه وسلّم صادق، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى، لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان، وحينئذ يلزم الدور، فهذا مقام صعب. أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية، والله أعلم.
المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله :﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه ﴾ ليس إلا لمجرد قوله :﴿لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ وهذا كلام حق، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة : أولها : النفسانية، وثانيها : البدنية، وفي المرتبة الثالثة : الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم، وفي المرتبة الرابعة : الأمور المنفصلة عن البدن.
أما المرتبة الأولى : وهي الكمالات النفسانية، فاعلم أن النفس لها قوتان : إحداهما : استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية، وسعادة هذه القوة في حصول المعارف. وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو، وإليه الإشارة بقوله :﴿أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا ﴾ والقوة الثانية للنفس : استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة العملية، وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة، وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله :﴿فَاتَّقُونِ﴾ ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية، وهي قوله :﴿لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا ﴾ على كمالات القوة العملية وهي قوله :﴿فَاتَّقُونِ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧١
وأما المرتبة الثانية : وهي السعادات البدنية فهي أيضاً قسمان : الصحة الجسدانية، وكمالات القوى الحيوانية، أعني القوى السبع عشرة البدنية.
وأما المرتبة الثالثة : وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية، فهي أيضاً قسمان : سعادة الأصول والفروع، أعني كمال حال الآباء. وكمال حال الأولاد.
وأما المرتبة الرابعة : وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه، فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية، وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية، فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال :﴿أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١٧١
١٧٢
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته، وهي المراد من قوله :﴿أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا ﴾ ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله :﴿فَاتَّقُونِ﴾ (النحل : ٢) روح الأرواح، ومطلع السعادات، ومنبع الخيرات والكرامات، أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته.


الصفحة التالية
Icon