القول الثاني : أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول.
البحث الثاني : قوله :﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال : أسمت الماشية إذا خليتها ترعى، وسامت هي تسوم سوماً إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج : أخذ ذلك من السومة وهي العلامة. وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات، وقال غيره : لأنها تعلم للإرسال في المرعى/ وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى :﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ (آل عمران : ١٤).
أما قوله تعالى :﴿يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَـابَ﴾ ففيه مباحث :
البحث الأول : هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان : أحدهما : معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات، وهو المراد من قوله :﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾. والثاني : ما كان مخلوقاً لأكل الإنسان وهو المراد من قوله :﴿يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ﴾.
فإن قيل : إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال :﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ ﴾ (طه : ٥٤) فما الفائدة فيه ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٨٥
قلنا : أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه، وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام :"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
البحث الثاني : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : بالنون على التفخيم والباقون بالياء، قال الواحدي : والياء أشبه بما تقدم.
البحث الثالث : اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات. والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة، وأما الغذاء النباتي فقسمان : حبوب. وفواكه، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون. والنخيل. والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل، ثم قال في صفة البقية :﴿وَزِينَةًا وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل : ٨) فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في صفة البقية :﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ تنبيهاً على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.
ثم قال :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وههنا بحثان :
البحث الأول : في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول : إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء. ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٨٥
إذا عرفت هذا فنقول : نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة. ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة/ فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة.
البحث الثاني : أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله :﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءًا لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَـابَ﴾.


الصفحة التالية
Icon