إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي / تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة، وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً وثبت أن الأثر غير متشابه، لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة، والوجه الثاني في غاية الحمرة فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا هو المراد من قوله :﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الارْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُه ا ﴾.
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة، فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجباً بالذات بل فاعلاً مختاراً فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله :﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ والآية الثانية بقوله :﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ والآية الثالثة بقوله :﴿لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٨٧
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر :﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَا وَالنُّجُومُ﴾ كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله :﴿مُسَخَّرَاتُ ﴾ وقرأ حفص عن عاصم :﴿وَالنُّجُومُ﴾ بالرفع على أن يكون قوله :﴿وَالنُّجُومُ﴾ ابتداء وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير، إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخراً فجوابه أن المعنى أنه تعالى سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته، وهذا هو الكلام الصحيح، والتقدير : أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه، وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله علم. بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : التسخير عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلا بمن هو قادر يجوز أن يقهر، فكيف يصح ذلك في الليل والنهار وفي الجمادات والشمس والقمر ؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لما دبر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطواع، فلهذا المعنى أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير. وعن الوجه الثاني في الجواب : وهو لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب علم الهيئة، وذلك لأنهم يقولون : الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق والله تعالى يحرك هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية، فلهذا السبب ورد فيها اللفظ التسخير.
السؤال الثاني : إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس كان ذكر / النهار والليل مغنياً عن ذكر الشمس.
والجواب : أن حدوث النهار والليل ليس بسبب حركة الشمس، بل حدوثهما بسبب حركة الفلك الأعظم الذي دللنا على أن حركته ليست إلا بتحريك الله سبحانه/ وأما حركة الشمس فإنها علة لحدوث السنة لا لحدوث اليوم.
السؤال الثالث : ما معنى قوله :﴿مُسَخَّرَاتُا بِأَمْرِه ﴾ والمؤثر في التسخير هو القدرة لا الأمر.
والجواب : أن هذه الآية مبنية على أن الأفلاك والكواكب جمادات أم لا، وأكثر المسلمين عليها أنها جمادات، فلا جرم حملوا الأمر في هذه الآية على الخلق والتقدير، ولفظ الأمر بمعنى الشأن والفعل كثير قال تعالى :﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ (النحل : ٤٠) ومن الناس من يقول إنها ليست جمادات فههنا يحمل الأمر على الأذن والتكليف والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٨٧
١٨٩
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات، وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه، وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات، وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء.
واعلم أن علماء الهيئة قالوا : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء وذاك هو البحر المحيط وهو كلية عنصر الماء وحصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال بعده :﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّه مِنا بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ (لقمان : ٢٧) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص.
واعلم أن منافع البحار كثيرة والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع :
المنفعة الأولى : قوله تعالى :﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon