إذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلاً إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه، أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة، فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب. والله أعلم بمراده.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٢
النعمة الثانية : من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل ههنا بحثان :
البحث الأول : أن قوله :﴿وَأَنْهَـارٌ﴾ معطوف على قوله :﴿وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ﴾ والتقدير ألقى رواسي وأنهاراً. وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال : ألقى اًّ في الأرض أنهاراً كما قال :﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ (قَ : ٧) والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى :﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِيهَا﴾ (فصلت : ١٠} والإلقاء يقارب الإنوال، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى : والإلقاء يقارب الإنوال، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى :﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى﴾ (طه : ٣٩).
البحث الثاني : أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
النعمة الثالثة : قوله :﴿وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وهي أيضاً على قوله :﴿وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ﴾ والتقدير : وألقى في الأرض سبلاً ومعناه : أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى :﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا﴾ (طه : ٥٣) وقوله :﴿لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي لكي تهتدوا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال :﴿وَعَلَـامَـاتٍ ﴾ وهي أيضاً معطوفة على قوله :﴿فِى الارْضِ رَوَاسِىَ﴾ والتقدير : وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهاراً وسبلاً وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي، وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق. قال الأخفش تم الكلام عند قوله :﴿وَعَلَـامَـاتٍ ﴾ وقوله :﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ كلام منفصل عن الأول، والمراد بالنجم الجنس كقولك : كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي، وقرأ الحسن :﴿وَبِالنَّجْمِ﴾ بضمتين وبضمة فسكون، وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف. وقيل : حذف الواو من النجم تخفيفاً.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ١٩٢
فإن قيل : قوله :﴿أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ خطاب الحاضرين وقوله :﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ خطاب للغائبين فما السبب فيه ؟
قلنا : إن قريشاً كانت تكثر أسفارها لطلب المال، ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله :﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه. والله أعلم.
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله :﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ مختص بالبحر، لأنه تعالى لما/ ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم، ومنهم من قال : بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى، لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معاً، ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلاً على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض، وهي الجبال والرياح، وذلك صحيح، لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة.


الصفحة التالية
Icon