ثم قال :﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ ﴾ يعني : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا. والحاصل أن المعتزلة يقولون : الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض.
أجاب الجبائي : بأن المراد :﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ﴾ لنيل ثوابه وجنته :﴿وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ ﴾ أي العقاب. قال : وفي صفة قوله :﴿حَقَّتْ عَلَيْهِ﴾ دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق. وأيضاً قال تعالى بعده :﴿فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب، وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال.
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال : قوله :﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ﴾ أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتدياً، ﴿وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ ﴾ يريد : من ظهرت ضلالته، كما يقال للظالم : حق ظلمك وتبين، ويجوز أن يكون المراد : حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله :﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ ﴾ (إبراهيم : ٢٧).
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة، وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مراراً، فلا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.
المسألة الرابعة : في الطاغوت قولان : أحدهما : أن المراد به : اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله، فسمى الكل طاغوتاً، ولا يمتنع أن يكون المراد : اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم.
المسألة الخامسة : قوله تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ ﴾ يدل على مذهبنا/ لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال ومستلزم المحال محال، فكان عدم الضلالة منهم محالاً، ووجود الضلالة منهم واجباً عقلاً، فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة والله أعلم. ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله :﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ ﴾ (الأعراف : ٣٠) وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (يونس : ٩٦) وقوله :﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى ا أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (يس : ٧).
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٦
ثم قال تعالى :﴿فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ والمعنى : سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي، فقال :﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاـاهُمْ﴾ أي إن تطلب بجهدك ذلك، فإن الله لا يهدي من يضل، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿يَهْدِى﴾ بفتح الياء وكسر الذال والباقون :﴿لا يَهْدِى﴾ بضم الياء وفتح الدال.
أما القراءة الأولى : ففيها وجهان : الأول : فإن الله لا يرشد أحداً أضله، وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني : أن يهدي بمعنى يهتدي. قال الفراء : العرب تقول : قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى، والمعنى أن الله إذا أضل أحداً لم يصر ذلك مهتدياً.
وأما القراءة المشهورة : فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل، أي من يضله، فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله :﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه ﴾ (الأعراف : ١٨٦) وكقوله :﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِنا بَعْدِ اللَّه ﴾ (الجاثية : ٢٣) أي من بعد إضلال الله إياه.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ﴾ أي وليس لهم أحد ينصرهم أي يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة. وأقول أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة، وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٠٦
٢٠٩
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلاً.


الصفحة التالية
Icon