المسألة السادسة : الضمير في قوله :﴿مِّن مِّثْلِه ﴾ إلى ماذا يعود وفيه وجهان : أحدهما : أنه عائد إلى "ما" في قوله :﴿مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم والثاني : أنه عائد إلى "عبدنا" أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء/ والأول مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين، ويدل على الترجيح له وجوه : أحدها : أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في يونس ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِه ﴾. وثانيها : أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا﴾ فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئاً مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله. وثالثها : أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تماثل الواحد، والقارىء لا يكون مثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى. ورابعها : أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة أما لو صرفناه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم. وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد عليه السلام كان الأول أولى. وخامسها : أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد عليه السلام لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن. ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٧
المسألة السابعة : في المراد من الشهداء وجهان : الأول : المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان، فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد صلى الله عليه وسلّم إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر، فيكون في الكلام محاجة من وجهين : أحدهما : في إبطال كونها آلهة. والثاني : في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله. الثاني : المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه السلام، والمعنى وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر. فإن قيل هل يمكن حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما فأولى ؟
قلنا أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة فيمكن جعله مجازاً عن / المعين والناصر، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه وأما الثاني فنقول : الأولى حمله على الأكابر، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز، في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان أو يقال : المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم، والإضمار خلاف الأصل، أما إذا حملنا على الوجه الأول صح الكلام، لأنه يصير كأنه قال : وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار. فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر/ وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.


الصفحة التالية
Icon