إذا ثبت هذا فنقول : هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس، إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلاً على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه، فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع، ونظيره قوله :﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ (الرحمن : ٦) وقوله :﴿وَظِلَـالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ ﴾ (الرعد : ١٥) قد مر بيانه وشرحه.
والقول الثاني : في تفسير هذا السجود، أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد. قال أبو العلاء المعري في صفة واد :
بحرف يطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زي الراهب المتعبد فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ، وكان الحسن يقول : أما ظلك فسجد لربك، وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت، وقال مجاهد : ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي، وقيل : ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجداً أم لا.
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية، والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة.
المسألة الخامسة : وقوله :﴿سُجَّدًا﴾ حال من الظلال وقوله :﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي صاغرون، يقال : دخر يدخر دخوراً، أي صغر يصغر صغاراً، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى، وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله :﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ حال أيضاً من الظلال.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٩
فإن قيل : الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون ؟
قلنا : لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء.
أما قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن السجود على نوعين : سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى، وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع، ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها/ في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما/ وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح.
إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من قال : المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد، والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال : المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول، لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات، ومنهم من قال : السجود لفظ مشترك بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز، فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى، وهذا القول ضعيف، لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معاً غير جائز.
المسألة الثانية : قوله :﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ قال الأخفش : يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله، وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما الوجه في تخصبص الدواب والملائكة بالذكر ؟
فنقول فيه وجوه :
الوجه الأول : أنه تعاني بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى، لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة، فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى.
والوجه الثاني : قال حكماء الإسلام : الدابة اشتقاقها من الدبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح محضة مجردة، ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارْضِ وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ (الأنعام : ٣٨) والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢١٩
أما قوله تعالى :﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon