وجوابه : إن كان مزيم القبائح في أعين الكفار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين/ الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل. وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب.
ثم قال تعالى :﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ وفيه احتمالان : الأول : أن المراد منه كفار مكة وبقوله :﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك، كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة. الثاني : أنه أراد باليوم يوم القيامة، يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم، والمقصود من قوله :﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر، وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم، ورأوا أنه لا مخلص له منه، كما لا مخلص لهم منه، جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم : هذا وليكم اليوم على وجه السخرية، ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيه وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها، والمختلفون هم أهل الملل والأهواء، وما اختلفوا فيه، هو الدين، مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل الأحكام، مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة.
المسألة الثانية : اللام في قوله :﴿لِتُبَيِّنَ﴾ تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض، ونظيره آيات كثيرة منها قوله :﴿كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ (إبراهيم : ١) وقوله :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦).
وجوابه : أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" قوله :﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ معطوفان على محل قوله :﴿لِتُبَيِّنَ﴾ إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام في قوله :﴿لِتُبَيِّنَ﴾ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفاعل.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣١
المسألة الرابعة : قال الكلبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، لا ينفي كونه كذلك في حق الكل، كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) لا ينفي كونه هدى لكل الناس، كما ذكره في قوله :﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة : ١٨٥) وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به، كما في قوله :﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٤٥) لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٣١
٢٣٥
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيات والنبوات والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات، فلهذا السبب كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية، وثنى بالإنسان، وثلث بالحيوان، وربع بالنبات، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال :﴿وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ والمعنى : أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر، وينفع بعد أن كان لا ينفع، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة.
ثم قال :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع.
والنوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله :﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ لَعِبْرَةًا نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِه ﴾ قد ذكرنا معنى العبرة في قوله :﴿لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾ (آل عمران : ١٣) وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon